في كل بيت راق
مقدمة :
الحمد لله مزيل الهم وكاشف الغم، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره فهو مولي النعم وصارف النقم.
والصلاة والسلام على إمام المرسلين ، وسيد الأولين والآخرين وقائد الغر المحجلين، محمد بن عبدالله عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى التسليم. أما بعد ،،،
فيا إخوتي في الله : -
شر ما مُنيت به النفوس يأس يميت القلوب وقنوط تُظلم به الدنيا وتتحطم معه الآمال.
إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع. كم ترى من شاكٍ وكم تسمع من لوام. يشكو علة وسقماً أو حاجةً وفقراً، متبرم من زوجه وولده ، لوامٌ لأهله وعشيرته . ترى من كسدت تجارته وبارت صناعته ، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه.
تلك هي الدنيا، تُضحك وتُبكي وتجمع وتشتت، شدة ورخاء وسراء وضراء، دار غرور لمن اغتر بها وهي عبرةٌ لمن اعتبر بها. إنها دارُ صدق لمن صدقها ميدان عمل لمن عمل فيها ( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) الحديد23 .
تتنوع فهيا الابتلاءات وألوان الفتن، ويُبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) الأنبياء35 .
ولكن إذا استحكمت الأزمات وترادفت الضوائق. فلا مخرج إلا بالإيمان بالله والتوكل عليه وحُسن الصبر. ذلك هو النورُ العاصم من التخبط. وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط .
إنه مما يؤلم القلب ويُحزن النفس.. ماتراه من معاناة بعض الأسر من هموم وغموم وآلام وأمراض . كم رأينا وسمعنا عن أسرةٍ تخرج في الليل البهيم تبحث عن راقٍ أو شيخ ينقذها مما أصابها من آفات الدنيا، أو إيذاء الشياطين، أو شر نفوس الحاسدين.
كيف سيكون الحال لو أن ( في كل بيت راق) ؟
إشارات لابد منها :
1- نحن نثبت السحر والمس والعين كما ثبت بالشرع ونأخذ بأقوال علمائنا كابن باز وابن عثيمين رحمهما الله وكذلك نثبت الأمراض النفسية وأن لها أهلها من الأطباء والمتخصصين، ونعتقد أن علاج ذلك كله يكون بالقرآن، وقد يحتاج الأمر إلى أسباب أخرى مشروعة كالأدوية الطبية على سبيل المثال في الطب النفسي. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }الإسراء82 .
2- نثمن بكل احترام وتقدير ما يبذله الرقاة من جهود وإسهامات رائعة في خدمة الناس وفك معاناتهم بإذن الله تعالى وحوله وقوته، ونسأل الله أن يجزيهم عن الأمة خير الجزاء.
أسباب طرح الموضوع :
1- البحث عن الشفاء بشتى الطرق والوسائل حتى لو كانت محرمة ( قد يبدأ المريض بالرقاة وينتهي به الأمر عند المشعوذين).
2- تعلق المرضى بالأشخاص مما يضعف تعلقهم بالله سبحانه.
3- تجاوزات بعض الرقاة ومبالغتهم في طريقة العلاج.
4- عدم قدرة الرقاة الملتزمين بالضوابط الشرعية من السيطرة على أعداد المرضى، مما يجعلهم دائماً في مأزق وحرج.
5- المجتمع يسير نحو الإعاقة وهو لا يعلم، وأعني بالإعاقة ، الإعاقة الإيمانية، والإعاقة الصحية.
مفاهيم يجب أن تدرك وتُصحح :
1- الحالات الصعبة في المجتمع قليلة نسبياً وأكثر الحالات تتراوح بين المتوسطة ودون المتوسطة وهذه يمكن السيطرة عليها بإذن الله. أما الحالات الصعبة فيستشار فيها المتمرسون من الرقاة.
2- معظم الحالات المتوسطة تدور بين العين والضغوط النفسية وهناك فرق بين العين التي تُدخل الرجل القبر والجمل القدر وبين ما يسمى عند العامة بالنفس.
هذه الحالات ( أعني النفس أو العين غير الشديدة ، والضغوط النفسية تكثر في مجتمعنا وتزيد عند أناس وتقل عند آخرين، وتتنوع أعراضها ومظاهرها ولكن يمكن الصبر عليها وعلاجها بالرقية ووسائل أخرى، كالعسل وماء زمزم والحبة السوداء، والصدقة، وغيرها.
وقد ذكر الشيخ عبدالله السدحان كلاماً قريباً من ذلك في كتابه ( كيف تعالج مريضك بالرقية الشرعية ) أعني حول علاج العين أو النفس التي أشرت إليها فقال : " ويخطئ كثير من المعالجين هداهم الله بإحداث البلبلة وشحن فكر هذا المريض أن فيه سحراً أسود أو أحمر، أو جاناً مسيطرين عليه سفلياً كان أم علوياً !! فيجعله ييأس من رحمة الله، ويقومون بتعذيبه بالضرب والخنق، وتسليط الجن عليه بالوساوس ، فليس هذا من الدين في شيء، فليتق الله هؤلاء الرقاة، ولا يكونوا عوناً للشيطان على أخيهم )
3- مات من الهم .. ما سر ذلك ؟
كنت فيما مضى أتساءل كثيراً.. كيف يموت الإنسان من الهم.. ما زال هذا السؤال محيراً حتى وقفت على بعض المعلومات التي تفك هذه الشفرة وتحل ذلك اللغز.. ولنقف مع هذه القصص..
أ- مجنون ليلى :
قيس بن الملوح بن مزاحم العامر.
شاعر غزل من المتيمين من أهل نجد لم يكن مجنوناً وإنما لقب بذلك لهيامه في حب ليلى بنت سعد التي نشأ معها إلى أن كبرت وحجبها أبوها، فهام على وجهه ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش، فيُرى حيناً في الشام وحيناً في نجد وحيناً في الحجاز، إلى أن وُجد ملقى بين الأحجار وهو ميت فحُمل إلى أهله.
وهو القائل :
صغيرين نرعى البهم ياليت أننا *** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
وقال أيضاً :
هوى صاحبي ريحُ الشمال إذا جرت *** وأهوى لنفسـي أن تهـب جنـوبُ
فويلي على العذال مـا يتركوننـي *** بغمـي أمـا فـي العاذليـن لبيـبُ
يقولون لو عزيت قلبك لا رعـوى *** فقلـت وهـل للعاشقيـن قـلـوبُ
لقد بلغ الهم بقيس مبلغاً عظيماً حتى أهلكه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ب – ذكر ابن القيم أن رجلاً تعلق بمحبوب له، فلما امتنع المحبوب عن لقائه سقط الرجل صريعاً على فراش المرض ثم أنشد قائلاً :
أسلم يا راحـة العليـل *** ويا شفا المدنف النحيـل
رضاك أشهى إلى فؤادي *** من رحمة الواحد الجليل
ثم صرخ صرخة ومات من حينه.
نعوذ بالله من ميتة السوء.. وهلاك الغفلة.
لقد ثبت في البحوث الطبية أن الهم والقلق يسبب نقص المناعة، وبالتالي يضعف الجسم عن مقاومة الأمراض ويبدأ الجسم تدريجياً في الضعف والذبول حتى يصل إلى مرحلة خطيرة وقد أورد صاحب كتاب التفاؤل التلقائي ما يلي :
" أوضحت الدراسات في المجلة الطبية أن الاضطرابات النفسية الحادة ترتبط بالمناعة الخلوية في الإنسان "
وقد تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من الهم كما جاء عند البخاري فقال: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن".
يقول جون جوزيف : إن قرحة المعدة لا تأتي مما تأكل ولكنها تأتي مما يأكلك، يعني القلق والهموم وتوتر العواطف والخوف.
إذاً ينبغي على كل مؤمن أن يطرد الهم والغم من ساحته حتى لا يكون فريسة لهذا الداء الخطير، وسيأتي لاحقاً العلاج في الجملة إن شاء الله.
4- إياك والوهم فإنه مدخل من مداخل الشيطان .
كلنا يدرك المعركة الأزلية بين الإنسان والشيطان ، هذه المعركة التي بدأت حينما توعد الشيطان بإغواء الإنسان {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } ص82 .
ويعتبر الوهم أحد مداخل الشيطان الخطيرة لإسقاط الإنسان في دائرة الشك ومن ثم ضعف الإيمان والتوحيد.
تبدأ الخطة الإبليسية بالوهم .. ثم ضعف التوحيد، ثم التعلق بغير الله.. إلى ترك الصلاة والوقوع في الهاوية عياذاً بالله من ذلك.
رجل في بطنه ثعبان :
ذكر الشيخ الطنطاوي رحمه الله في كتابه الماتع (صور وخواطر) مانصه :
" وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري، أصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعباناً، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء، فكانوا يدارون الضحك حياء منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين. فلا يصدق.
حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات قد سمع بقصته ، فسقاه مسهلاً وأدخله المستراح وكان وضع له ثعباناً فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحس بالعافية ، ونزل يقفز قفزاً، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياء، ويئن ويتوجع ولم يمرض بعد ذلك أبداً.
ثم قال الطنطاوي أيضاً :
ما شفي الشيخ لأن ثعباناً كان في بطنه ونزل، بل لأن ثعباناً كان في رأسه وطار، لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وإن في النفس الإنسانية لقوى إذا عرفتم كيف تستفيدون منها صنعت لكم العجائب ".
يا لها من قصة ظريفة ومفيدة .. تشخص الداء وتوضح بكل براعة طبيعة الدواء...
5- القرآن راحة للأرواح والأبدان :
إن القرآن العظيم كتاب هداية ونور وشفاء لما في الصدور.. لذلك نحتاج إلى نشر روح السكينة والهدوء في علاجنا لأنفسنا ومن حولنا.
إن الرقية بالقرآن راحة للأرواح وعافية للأبدان، إنها ليست رعباً وهلعاً تجعل الإنسان يتهرب أو يتردد في العلاج بكتاب الله الكريم.
يجب على كل واحد منا أن يربي نفسه وأهل بيته وجيرانه على هذا المفهوم، حتى يتقبل الجميع الرقية وهم أسكن نفساً وأهدأ حالاً.
وتأمل حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الحالات:
1- جاء عند الإمام أحمد .. حينما أتت الرسول الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة بابن لها قد أصابه لمم، فقال النبي الرسول صلى الله عليه وسلم" أخرج عدو الله أنا رسول الله قال: فبرأ " .
2- عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف ، فادع الله لي قال: " إن شئتِ صبرت ولك الجنة، وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك ".
قالت أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها. متفق عليه.
تأمل كيف عالجها الرسول الرسول صلى الله عليه وسلم وتحاور معها بكل هدوء وسكينة...
6- نحو مجتمع سليم ومنتج:
إن من أعظم النعم التي يمن الله عز وجل بها على أي مجتمع، نعمة العافية في الأبدان والأمن في الأوطان، ولذلك جاء في الحديث الشريف " من أمسى معافى في بدنه آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ". رواه الترمذي وقال حديث حسن ووافقه الألباني
إن المتجمع لا يمكن أن يكون منتجاً .. نافعاً حتى يبرأ من مرضه الإيماني والنفسي.
وإني لأتعجب كيف استطاعت اليابان أن تتجاوز محنتها من المحرقة النووية.. وكيف صبرت حتى وصلت إلى قمة التقدم والتطور المبهر.. وهي وثنية المعتقد ؟!
وكيف تخطت ألمانيا مصاعبها بعد الحرب العالمية .. لكي تقف على أقدامها من جديد.
فعلينا أن نتجاوز مشاكلنا ومصائبنا بعد الإيمان بالله.... بالتفاؤل والأمل.. والجد والعمل.
أعلـل النفـس بالآمـال أرقبهـا *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ولماذا نحطم أنفسنا.. ونعطل طاقاتنا بحجة أننا مرضى.. أو نعاني من هموم وغموم وضغوط نفسية.
إننا نملك نعماً عظيمة، ولم ندرك بعد عظيم فضل الله علينا، جاء في مؤلفات ديل كارنيجي ما نصه :
" إن أحد الأشخاص كان واقفاً على أحد الشوارع واليأس يقطع قلبه في شرود وهموم متخيلاً نفسه أتعس الناس لأنه لم يجد العمل المناسب رغم أنه في صحة جيدة، وصاحب خبرة، ويقول فجأة شاهد رجلاً يقطع الطريق وهو مقطوع الساقين متكئاً على عوارض خشبية.. وبعد أن التقت عيناه مع ذلك الشخص ابتسم " مقطوع الساقين" وقال.. صباح الخير ياسيدي وقال إنه يوم جميل .. أليس كذلك ؟ يقول الرجل عندها أدركت كم أنا سعيد بما أملك وكيف نسيت ما عندي من النعم وخجلت من نفسي ".
- ما أعظم نعم الله علينا لو أنا أطلقنا تفكيرنا نحو التأمل الإيجابي .... !
7- العلامة ابن باز ووصايا نافعة :-
كان لسماحة العلامة عبدالعزيز بن باز وصايا نافعة في مجال الرقية، وكان مما أوصى به أحد السائلين حول مسألة الرقية قوله : " يقرأ على المريض آية الكرسي وبعض الأدعية المعروفة بالرقية الشرعية حتى ولو لم يكن هناك إطالة في القراءة " ( جريدة الجزيرة ، 3/8/1417هـ) فانظر إلى الهدوء والتوازن في الرد على السؤال.
- وسئل الشيخ ابن جبرين حفظه الله حول قراءة الراقي على المرأة الأجنبية فقال:
( لا يحل للقارئ الأجنبي أن يباشر لمس بشرتها بدون حائل، بل يقرأ عليها وهي متحجبة أو يقرأ عليها أحد نسائها أو محارمها أو تقرأ هي على نفسها بما تيسر من القرآن فالكل يرجى فيه الشفاء والنفع من الله ).
والشاهد هنا من كلام الشيخ ابن جبرين قوله ( أو تقرأ هي على نفسها) ، فما أجملها من وصية طيبة خرجت من عالم مبارك.
8- تجارب ناجحة :
هذه تجارب سمعت بعضها من بعض الفضلاء، وعايشت بعضها الآخر، وما أروع أن يعيش الإنسان تجربة كانت ناجحة بكل المقاييس، وكل ذلك من فضل الله وكرمه.
1- ذكر لي أحد الأخوة أن رجلاً جاء إلى أحد القراء يطلب منه أن يقرأ عليه، فهو كما يقول سافر إلى أماكن كثيرة طلباً للشفاء ولم يجد ما كان يتمنى، فقال له هذا الراقي وفقه الله. اذهب إلى بيتك واقرأ البقرة ثلاثة أيام متتالية ثم تعال بعد ذلك. وبعد ثلاثة أيام جاء الرجل إلى الأخ الراقي وقد شُفي تماماً من مرضه ولم يحتج للرقية، فقد رقى نفسه.
فانظر بارك الله فيك ، كيف تعالج الحالات، وكيف تتحول البيوت إلى مواطن للذكر وقراءة القرآن.
2- جاءني شخص شاب قد أرهقته الأمراض الأوهام، وقال لي: ذهبت إلى الشيخ فلان تسع مرات ولم يتغير شيء، هل ممكن أن أُشفى من مرضي، فأنا لا أستطيع النوم مما أصابني.
فقلت له أبشر بالخير، إن شاء الله. فتحاورت معه وأخبرته بعد ذلك أن الشفاء من الله وأن يبدأ الخطوة الأولى من بيته فذكرت له بعض الوصايا التي تعين على تجاوز هذه المشكلة، من توجه لله وتوكل عليه وقراءة القرآن وقيام الليل، مع تحليل مختصر لطبيعة الحالة. وماهي إلا أيام حتى أصبح هذا الشاب طلق المحيا.. مرتاح البال.. قريباً من الله.. يلهج لسانه بذكر الله.. وقد حقق حلم ( في كل بيت راق ).
3- عائلة تخرج في الليل البهيم تبحث عن راق يهدئ روعها .. ويعيد البسمة إلى أجوائها، فقد أصيبت الأم بحالة غريبة بشكل مفاجئ تعاني منذ أيام.. ولم يجدوا أحداً تلك الليلة، وباتوا ليلتهم في هم وغم ومعاناة حتى الصباح، وفي اليوم التالي اتصل بي أحد الأخوة يطلب مني زيارة هذه العائلة ، فتمت الزيارة، وحصل حوار بيني وبين المرأة وزوجها ، وكان مما فيه أهمية التحصين ، والتوجه إلى الله والأذكار وقراءة البقرة، ثم تحليل مبسط للحالة التي يمرون بها، وإشارة إلى الخير الذي في طيات هذه المحنة.. ثم مكثت ثلاثة أيام تقريباً لأسمع الخبر من أحد أفراد هذه العائلة أن الأب والأم تحولا إلى رقاة لأنفسهم ولأبنائهم وأن سورة البقرة أصبحت أهم أولياتهم . وأصبحا يحفظان الأذكار ويوزعان المطويات بين أبنائهم حتى قال لي أحدهم: لقد تحول الرجل إلى (راق في بيته) ولم يحتج بعد ذلك للبحث عن الرقاة.
- هذه بعض التجارب.. ويوجد غيرها ليس عندي فقط بل عند الكثير تثبت بالبرهان والواقع الملموس أنه بالإمكان تحقيق هذه الأمنية.
فما أجمل الحياة.. وما أروع المجتمع حينما يكون ( في كل بيت راق).
الوسائل المعينة لتحقيق ( في كل بيت راق) :
1- التوحيد :
إن معظم الشرور والنكبات التي أصابت أمة الإسلام وأشد البلايا التي حلت بها، كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس.
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ }الأنعام17
- وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في يده حلقة من صفر فقال: " ما هذا ؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها فإنها لاتزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً " رواه أحمد بسند لابأس به.
ولأحمد أيضاً عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من تعلق تميمة فلا أتم الله له ".
وذكر ابن القيم في الفوائد قوله :
" فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد. ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد،ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد فلا يُلقى في الكُرب العظام إلا الشرك ولا يُنجى منها إلا التوحيد ".
ومن الأمور المعينة على كشف الكرب ما يلي :
" وإذا سألت فاسأل الله ".
إن أول خطوة عادةً ما نقوم بها حينما نصاب بمرض أو هم أوغم هي البحث عن شيخ أو راق يعالج ما ألم بنا.
والصحيح أن نتوجه أولاً لله سبحانه وتعالى ، فهو القائل عز وجل : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }البقرة186.
والمتأمل في أحوال الناس يجد أنهم يبذلون الجهد والوقت والمال حتى يصلوا إلى الراقي أو الشيخ، وكثيراً ما يكون هذا الراقي مشغولاً ، أو أنه قطع وسائل الاتصال به لكثرة الزحام عليه من الناس.
فيا عجباً لنا ! إن الواحد الديان لا يغلق بابه أبداً. بل يتنزل في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلاله فيقول هل من سائل فأعطيه .. فأين نحن من هذه الساعات المباركة واستغلالها في التضرع إلى الله بأن يكشف عنا البلاء والهم والمرض. ..
ثم تأمل معي أيها الحبيب هذه المواقف:
1- حينما قُذف إبراهيم عليه السلام في النار .. تبدى له جبريل فقال يا إبراهيم هل لك من حاجة، فقال أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم فقال الله عز وجل : {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }الأنبياء69 .
2- وفـي قصـة موسـى عليه السلام قال الله تعالى : {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }الشعراء63 .
3- وهذا رسولنا الكريم النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان في الغار مع صاحبه أبي بكر، وكفار قريش، يحومون حول الغار طلباً للحبيب عليه الصلاة والسلام، فإذا بأصوات أقدامهم تخفق إلى جوار الرسول النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه .. فقال أبو بكر : " لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا " فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ماظنك باثنين الله ثالثهما. { فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة40
أيها المبتلى :
إذا سألت فاسأل الله، فإنه سميع مجيب وإنه نعم المولى ونعم النصير.
- واعلم أن من التوحيد أيضاً: التوكل على الله، واليقين بموعوده والثقة بنصره، فلا تبخل على نفسك بهذه المعاني المباركة.. فإن فيها من لذة الإيمان .. وسعادة القلب ما الله به عليم.
ومن الوسائل المعينة لتحقيق (في كل بيت راق) :
2- الصلاة :
" كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة " وكان يقول " أرحنا بها يابلال " . رواه احمد وأبو داود
إن الإنسان إذا أراد الراحة والسعادة والعافية فلابد أن يحافظ على الصلاة .. ويستمتع بالوقوف أمام العزيز الرحيم.. وكلما اضطربت صلاتك زادت علاتك.. والحر تكفيه الإشارة.
يقول الدكتور عائض القرني في كتابه الشهير لا تحزن : " إن على الجيل الذي عصفت به الأمراض النفسية أن يتعرف على المسجد ، وأن يمرغ جبينه ليُرضي ربه أولاً، ولينقذ نفسه من هذا العذاب الواصب. وإلا فإن الدمع سوف يحرق جفنه، والحزن سوف يحطم أعصابه وليس لديه طاقة تمدّه بالسكينة والأمن إلا الصلاة ".
3- عليك بالذكر والدعاء والاستغفار :
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } طه124
" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي والميت ".
اعلم أيها الحبيب أن الغفلة داء خطير.. ومدخل من مداخل الشيطان الرجيم.
يقول ابن القيم في الفوائد :
" كل ذي لب يعلم ألا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات ... وذكر منها :
الغفلة : فإن الذاكر في حصن الذكر، فمتى غفل فتح باب الحصن فولجه العدو فيعسر عليه أو يصعب إخراجه.
ثم تأمل معي هذا الحديث الشريف :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال إذا خرج من بيته بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: كفيت ووقيت وهُديت، وتنحى عنه الشيطان فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكفي ووُقي؟ " رواه أبو داوود والنسائي والترمذي بإسناد جيد.
فانظر إلى فضل الذكر وثمرته في حديث واحد فكيف بمن لازم الذكر في سائر يومه.
4- الدعاء :
إن الدعاء هو لب العبادة.. وقد ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم " الدعاء هو العبادة " . رواه الترمذي وقال حديث صحيح
فمتى ما أراد المبتلى أو المريض النجاة والسعادة، فعليه بالتضرع إلى الله .. فإنها خير طريق وأيسره إلى نيل فضل الله ورحمته.
قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) الأنعام42.
البأساء: الفقر والضيق في العيش.
الضراء : الأمراض والأسقام والآلام.
يتضرعون : يتذللون لله.
{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }الأنعام43 .
- زين لهم : الكفر والمعاصي والعياذ بالله.
فيا عبدالله .. متى ما أصابك بلاء أو هم فافزع إلى الله .. وتضرع إليه .. وانكسر بين يديه فإنه عز وجل قريب مجيب.
5- الاستغفار :
قال عز وجل مبيناً أثر الاستغفار على الفرد والأمة {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } هود52.
فطوبى لمن لزم الاستغفار.. ونال الفضل الكبير من الواحد القهار.
6 -- كم رصيدك في بنك الأعمال الصالحة :
جاء عند الإمام الترمذي في سننه: قوله النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس ": يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك " .
وفي رواية أخرى صححها الألباني : " تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة ".
وقال أحد السلف كما ذكر ذلك ابن رجب في جامع العلوم والحكم :
" تدبرت هذا الحديث ، فأدهشني وكدت أطيش ، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه ".
ومعنى الحديث : " أن من حفظ أوامر الله وقام بما أوجب الله عليه وانتهى عما نهى عنه حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل " .
قال تعالى : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }البقرة40 .
إذاً هي المعادلة الربانية.. كم رصيدك من الأعمال وكم حفظت الله في الرخاء.. تكون المحصلة واضحة وجلية.
- ولذلك قال الله عز وجل في حق يونس عليه السلام : {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }الصافات144.
- وقال عز من قائل : {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }الأنبياء90
- والحبيب محمد J كان يتحنث في الغار الليالي الطوال.. وفي بدر رفع يديه إلى مولاه فاستجاب الله له : " أبشر يا أبا بكر هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع " املأ رصيدك بالطاعات.. يأتيك الفرج من رب الأرض والسموات.
7 - غيِّر جو :
أيها لأخ المبتلى وفقه الله وشفاه :
احذر أن تكون أسيراً لمرضك أو أوهامك أو آلامك.
زر صديقاً إيجابياً.. يحول طاقتك السلبية إلى إيجابية ، اذهب إلى الشاطئ وتأمل أمواج البحر الهادئة في ساعة الغروب .. وإن لم تكن من عشاق البحر. فاذهب إلى البر. اطبخ تيساً، أو اشو لحماً أو هاموراً ثم احمد الله.
لقد كان الأوائل من الآباء والأجداد يهربون من الهموم والغموم.. وينشدون الأشعار ويطربون للحداء المباح علهم أن يدفنوا همومهم في أجواء مفعمة بالبهجة والأنس وقد قال أحدهم من البادية :
يا فريج أوسع ضيقة الصدر يا فريج *** مهوب من زود الطرب يوم أغنـي
لولا ي أوسع خاطـري بالأهازيـج *** كان انتحر يا فريـج ولا أستجنـي
وقال أبو ذر رضي الله عنه : " إني لأستجم بشيء من اللهو حتى أتقوى على الحق".
وكان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن عليه الليل فكأنما قتل أهل القرية.
8 - الصبر أفضل مضاد حيوي :
أيها الأخ الكريم ...
اصبر وما صبرك إلا بالله، اصبر صبر واثق بالفرج، عالم بحسن المصير ، طالب للأجر، راغب في تكفير السيئات ، اصبر مهما ادلهمت الخطوب، وأظلمت أمامك الدروب، فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب ، وإن مع العسر يسرا.
- اصبر : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر10 .
- اصبر. وانتظر الفرج .. فإن انتظار الفرج عبادة.
- اصبر.. وتيقن بالفرج وتذكر:
1- أن يعقوب عليه السلام فقد يوسف أعواماً عديدة حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ..
ثم هبت رياحُ الفرج على ذلك الشيخ الكبير صاحب القلب الوجيع ليقول : { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } يوسف94.
لتكتمل الفرحة بعد رحلة العناء .. ولذة الصبر .. وبرد اليقين ..
ولتنتهي القصة وهي في أجمل صورها.. وأمام مشهد رائع وانتصار بهيج : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً } يوسف100 .
2- تذكر أن أيوب أُوذي في جسده بأنواع من البلاء.. ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما.
لقد لبث به البلاء ثماني عشرة سنة وهو في ذلك كله صابر محتسب.
ثم جاء الفرج.
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ }.
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا *** من راقب الله في الأمور نجا
من صدق الله لـم ينلـه أذى *** ومن رجاه يكون حيث رجـا
وأخيراً .. يارب ارزقنا الإيمان الموصل إلى رضاك .
واليقين المؤدي إلى فضلك ورحماك.
واجعل مجتمعنا ذاكراً لك .. شاكراً لنعمك وأسبغ علينا من كريم جودك ومننك ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.