ـ 90 ـ إتقاء الشبهات
عن النعمان بن بشير(1) رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنّ الحَلالَ بيِّنٌ وإنّ الحرامَ بيِّنٌ ، وبينَهُما أمورٌ مُشتَبِهاتٌ لا يعلَمُهُنِّ كَثيرٌ مِنَ النّاس ، فَمَن اتَّقى الشُبُهاتِ استَبرأ لِدينِهِ وَعِرضِهِ ومَن وقَعَ في الشُبُهاتِ وَقَعَ في الحَرامِ ، كالراعي حولَ الحِمى يوشِكُ أن يَرتَعَ فيهِ ، ألا وإنّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمى ألا وإنّ حِمى اللّهِ محارِمُه ، ألا وإنّ في الجَسَدِ مُضغَة إذا صلُحَت صَلُحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وإذا فسُدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهي القَلبُ
(متفق عليه)
ما أحل الله بيِّن ، وما حرمه كذلك . لكن بين الحلال والحرام أمور لا يعلمها معظم الناس. ولا يمكن أن يعلمها كل الناس ، ومن الصعب عليهم أن يجدوا إتفاقا في الإجابة عليها ، فما العمل؟ لقد أجاب رسول الله على ذلك بأن ترك ما مشكوك فيه هو من صفات الأتقياء الذين يريدون أن لا يقعوا فيما حرم الله تعالى حتى عن غير قصد. ولا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة مما به البأس. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كُنا على زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ندَعُ تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام . وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: إنّكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر ، كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات(2)ـ
لقد بلغ من ورع سلف هذه الأمة مخافة الوقوع في الحرام الكثير. فقد رجع عبد الله بن المبارك من مرو إلى الشام لكي يعيد قلما إستعاره من صاحبه. ورهن الإمام أحمد بن حنبل سطلا عند بقال بمكة فلما أراد فكاكه أخرج البقال سطلين وقال خذ أيهما لك فقال ، أحمد أشكل عليّ سطلي فهو لك والدراهم لك ، فقال البقال سطلك هذا وإنما أردت أن أجربك ، فقال لا آخذه ومضى وترك السطل عنده. واشترى إبن سيرين(3) أربعين حبا من السمن فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله من أي حب أخرجتها فقال لا أدري فصبها كلها . إن ترك الشبهات يحتاج الى صبر وجلد وهو من صفات المتقين.
ـ 91 ـ إجتناب الرياء
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
يقولُ اللّهُ تعالى: مَن عَملَ لي عَمَلا أشرَكَ فيه غيري فهُو لَهُ كُلُّهُ وأنا منهُ بَريء وأنا أغنى الأغنياء عَن الشرك
(رواه مسلم ومالك وابن ماجه)
الرياء هو الشرك الأصغر. قال تعالى: ” فويل للمُصَلّينَ الّذينَ هُم عَن صلاتهم ساهونَ ، الّذينَ هُم يُراؤنَ ويَمنَعونَ الماعونَ ” ـ(4). لذلك على المرء أن يخفي من صالح عمله ما استطاع خاصة النوافل والصدقة فوق المفروضة ، فمن أخفى ذلك كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله ” ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ” (5)ـ
ولذلك كانت صلاة الفريضة في المسجد أفضل وصلاة النافلة في البيت أفضل لما فيها من إخفاء للعبادة وبعد عن الرياء. فقد قال الإمام علي رضي الله عنه : المرائي يكسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في الناس. ورأى عمر رضي الله عنه رجلا يُطأطِئ رقبته فقال يا صاحب الرقبة إرفع رقبتك ، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب . ويكون الرياء أحيانا بإظهار العبادة والعمل الصالح أو بالتزيّي بزيّ الصالحين أو بترداد أقوال يفهم منها صلاح صاحبها وتقواه أو المراآة بالأصحاب والزائرين إن كانوا من أصحاب الخير والصلاح.
والرياء درجات بعضها دون بعض. فإن كان المرائي ليس مراده الثواب أصلا فهذا ما لا يقبل الله من عمله شيئا . ويليه من يكون له قصد الثواب ولكن قصده ضعيف ولو كان لوحده لما وجد دافعا للقيام بالعمل . وهناك من يتساوى عنده قصد الثواب وقصد الرياء. أما أخف ذلك فهو أن يقصد وجه الله تعالى لكن يجد نفسه أنشط إن إطلع عليه الناس. فعلى المرء ان يراقب نيته ويخلص عمله فإن الله مطّلع على ما تخفي الصدور وهو ناقد بصير. وعلاج ذلك إخفاء العمل الصالح ما إستطاع فإن ظهر حمد الله ودعاه أن لا يدخل في عمله شيئا من الرياء ، فالله تعالى غير محتاج لعمل بني آدم ، لذلك فإن عملوا عملا إبتغاء وجه غيره ، فلا يقبل الله من ذلك شيئا . وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أخوَفَ ما أخافُ عَليكُم الشركُ الأصغَرُ(6).ـ
أما إن كان ولا بد من إظهار العمل ، فعلى المرء أن ينوي بذلك أن يقتدي به الناس ، أو أن يظهر نعمة الله عملا بقوله تعالى: ” وأمّا بنعمة ربّكَ فَحَدّث ” (7).ـ
ـ 92 ـ إجتناب العجب والكبر
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قلبه مثقالُ حَبّة من خَردَل من كِبر ، ولا يَدخُلُ النارَ مَن كانَ في قَلبه مثقالُ حَبَّة من خَردَل من إيمان " (رواه مسلم)
الكبر والإعجاب بالنفس من الذنوب المهلكة . وعلاج الكبر التواضع. والعجب بالنفس محبط للأعمال أو مسبب للعقوبة الدنيوية والأخروية ، قال الله تعالى: ” ويوم حنين إذ أعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغن عَنكُم شيئا ”(
.ـ
عن مطرف بن عبد الله الشخير(9) قال: لئن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إليّ من أن أبيت قائما (أي يقوم الليل بالعبادة) فأصبح معجبا . إن العجب يدعو إلى نسيان الذنوب أو إستصغارها ، والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان وأن له على الله منّة وله عنده حقا بأعماله التي نسي أنها هي نعمة وعطية من عطاياه جل جلاله وقد يخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها ، وقد نهى الله تعالى أن يزكي المرء نفسه فقال: ” فَلا تُزَكّوا أنفُسَكُم هُوَ أعلَمُ بمَن أتَّقى ”(10) ، فمن أعجب برأيه وعمله وعقله منعه ذلك من الإستفادة من الإستشارة والسؤال فيستبد برأيه ويعجب بالرأي الخاطئ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره ولا يفرح بخواطر غيره فيصرّ عليه ولا يسمع نصح ناصح ولا وعظ واعظ بل ينظر إلى غيره بعين الإستجهال والإزدراء ويصرّ على إخطائه. فلذلك كان العجب من المهلكات ومن أعظم آفاته أن يغتر في السعي (والعمل الصالح) لظنه أنه قد فاز (بالجنة) وأنه قد استغنى (عن المزيد من الصلاح) وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه. وعلى المرء أن لا يرى لنفسه فضلا على أحد وأن لا يزدري أحدا ، فرُبّ رجل هو على الكفر اليوم يكون أفضل منك غدا ، ولا تزدري حتى الكلب فإن الله تعالى قادر على أن يجعل المرء شر منه كما قال: ” إن هُم إلاّ كالأنعام بَل هُم أضّل سَبيلا ” (11).ـ
ومن الأسباب المؤدية إلى العجب بالنفس سماع المديح من الغير ، ومثل هذا المدح منهي عنه ، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” أحثوا التُرابَ في وُجوه المدّاحينَ ” (12) ، ويستحب لمن سمع مديحا من غيره أن يقول: اللهم إجعلني خيرا مما يظنون ، ولا تفتنّي بما يقولون ، واغفر لي ما لا يعلمون.
ـ 93 ـ محاسبة النفس
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” الكيّسُ مَن دانَ نَفسَهُ وعَملَ لما بَعدَ الموت والعاجزُ مَن أتبَعَ نَفسَهُ هواها وتَمَنّى على اللّه الأماني ” (رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم)ـ
قال الله تعالى: ” قَد أفلَحَ مَن زَكّاها وَقَد خابَ مَن دَسّاها ” (13) ، فالمحاسبة خير وسيلة لتقويم إعوجاج النفس بين حين وآخر لغرض تزكيتها . ويكون أساس المحاسبة هو مقارنة ما تفعله النفس مع ما يطلبه الشرع. فإن كانت قد وفّتْ ، فهل يمكنها أن تزيد إحسانا ؟ وإن كانت مقصّرَةً ، فما السبيل إلى تقويم اعوجاجها ؟ والوسيلة إلى تنفيذ ذلك هو مخالفة هواها . قال الله تعالى: ” وأمّا مَن خافَ مَقامَ رَبّه ونَهى النَّفسَ عَن الهوى فإنّ الجَنَّةَ هيَ المأوى "(14).ـ
قال الإمام علي رضي الله عنه: إنما أخشى عليكم اثنين: طول الأمل ، وإتباع الهوى ، فإن طول الأمل ينسي الآخرة وإن اتباع الهوى يصد عن الحق ، وإن الدنيا قد إرتحلت مدبرة وإن الآخرة مقبلة ، ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل . إن على المرء أن يقاوم شهوات نفسه ولا يستسلم لها أبدا فكل شهوة يستسلم لها يمكن أن تؤدي به إلى نار جهنم . فشهوة الطعام والشراب إن إستسلم لها أكل الحلال والحرام وربما ترك الصيام ، وشهوة الفرج إن إستسلم لها قادته إلى الفاحشة ، وشهوة الإنتقام إن إستسلم لها قادته إلى الظلم ، وشهوة التسلط إن إستسلم لها قادته إلى العجب والطغيان وشهوة التكاثر بالأموال والأولاد إن استسلم لها قادته إلى اكتساب االمال الحرام وحسد الناس وظلمهم وعدم دفع الزكاة ، وشهوة النوم والخمول والكسل تقوده إلى تَرْكِ الصلاة وترك الإكتساب ، وحب الحياة إن إستسلم لها تَرَك الجهاد. ويريد الله أن يُعِينَ المسلم على أن يكون حاكما لأهواء نفسه بمخالفتها فيما ليس من صالحها . إسمع قوله تعالى: ” لَن تَنالوا البرَّ حَتّى تُنفقوا مما تُحبّون ” (15) ، وبَيَّن ” إن النَّفسَ لأمّارَة بالسوء ” (16)ـ. وقد أوضحت السنة المطهرة حدود مخالفة الهوى لأن هذه المخالفة ليست مقصودة بذاتها بل لتقويم إعوجاج النفس وتطويعها ، وإلاّ إن زادت عن حدها إنقلبت إلى رهبانية مبتدعة ليس للمرء فيها من ثواب.
قيل لأحد الصالحين(17): إن فلانا يمشي على الماء ، فقال عندي أن من مكنّه الله تعالى من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي في الهواء. وقال أبو سليمان الدارني(18): من أحسن في ليله كوفئ في نهاره ، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله ، ومن صدق في ترك شهوة كوفئ مؤنتها ، والله أكرم من أن يعذب قلبا ترك شهوة لأجله. قال الله تعالى: ” والّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهديَنَّهُم سُبُلَنا وإن اللّهَ لَمَعَ المُحسنينَ ” (19).ـ
ـ 94 ـ الخوف من الذنوب
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
ـ” إن المُؤمنَ يَرى ذَنبَهُ كأنَّهُ في أصل جَبَل يَخافُ أن يَقَعَ عَليه وإنّ الفاجرَ يَرى ذُنوبَهُ كَذُباب وَقَعَ عَلى أنفه فقال لَهُ هكذا ” رواه الترمذي وأحمد
قال الله تعالى : ” فَلا تُزَكّوا أنفُسَكُم هُوَ أعلَمُ بمَن اتَّقى ” (20) ، فالمؤمن لا ينظر إلى نفسه إلاّ بعين اللوم والمحاسبة ولا ينظر إليها بعين الفخر والتزكية والعجب . وهكذا فهو بذلك يرقى في مراتب القرب من الله غير ملتفت إلى ما حصل عليه من ثواب آملا المزيد ، بل يخاف من الذنوب والخطايا مهما كانت صغيرة فرب مهلكة صغيرة أحبطت أعمال خير كثيرة ، ولسان حاله يقول : لا تنظر إلى صغر ذنبك ولكن إنظر لمن عصيت!! وإن أكبر عقبة في إكتساب درجات القرب من الله تعالى هو التهاون في المعاصي. فالمؤمن يخاف ذنوبه مهما كانت صغيرة و يراقب نفسه ، ويستغفر الله مما ألمّ به من ذنوب على الدوام ، فرب صغائر اجتمعت على صاحبها فأهلكته ، كما سبق في الحديث(63). لذلك فالمؤمن يخشى الله ويَتَّقْهِ ويرجو رحمته وثوابه ولا يتَّكِلَ إلى عمله مهما قدم من أعمال صالحة . فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” لايَدخُلُ أحد الجنَّةَ بعَمَله ” ، قيل ولا أنت يارسول الله!! قال: ” ولا أنا إلاّ أن يتَغَمَّدَني اللّهُ برَحمَته ” (21). وهذا الأسلوب وسيلة لتزكية النفس وتطهيرها مما يلمّ بها من ذنوب ومعاصي مهما كانت صغيرة . وفي مقابل ذلك إن رأى ذنبا من غيره ستره والتمس لصاحبه العذر فذلك دأب الصالحين دوما.
ـ 95 ـ الحذر من الحسد
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” الحَسَد يأكُلُ الحَسَنات كَما تأكُلُ النّارُ الحَطَب ”
(أخرجه أبو داود وإبن ماجه)
المؤمن ينظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيحمد الله تعالى ويمد يد العون إلى غيره ، وهو ينظر في أمور الآخرة إلى من هو فوقه فيتسابق إلى عمل الخير: ” فاستَبقوا الخيرات ” (22).ـ
الحاسد لا يرضى بقدر الله وقضاءه وقسمته لنعمه بين عباده. قال تعالى: ” قُل إنَّما حَرَّم ربيَ الفواحشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ ” ـ(23) ، قيل إن ما بطن هو الحسد. قال الحسن البصري: يا بن آدم لم تحسد أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه كرامة عليه فلم تحسد من أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار؟
والحاسد عدو لنعم الله تعالى: ” أم يَحسُدونَ النّاسَ على ما آتاهُم اللّهُ من فَضله ” (24). وقال عون بن عبد الله يعِظُ الفضل بن المهلب وهو يومئذ والي واسط: إياك والحسد فإنما قتل إبن آدم أخاه حين حسده: ” واتلُ عليهم نَبأ ابني آدم بالحق إذ قَرَّبا قُربانا فَتُقُبّلَ من أحَدهما ولَم يُتَقَبَّل منَ الآخَر قالَ لأقتُلَنَّكَ قال إنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ منَ المُتَّقينَ ” (25).ـ
والحسد ظلم لأنه تمني زوال نعمة من الله على الغير وهو مكر سيئ ، ” ولا يَحيقُ المَكرُ السيئُ إلاّ بأهله ” (26) فلله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله كمدا وحسرة.
والحسد محرَّم إلاّ في موضعين: هما أن يرى المرء رجلا أوتي علما فهو يعمل به ويعلّمه الناس ، أو رجلا أوتي مالا فهو ينفقه في سبيل الله فهو يتمنى أن يكون مثلهما ، أو مثل أحدهما لا أن يتمنى زوال النعمة عنهما.
ـ 96 ـ إجتناب الظن
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” إيّاكُم والظَن ، فإنّ الظَنّ أكذَبُ الحَديث ”
(متفق عليه)
قال الله تعالى: ” يا أيُّها الّذينَ آمَنوا اجتَنبوا كَثيرا منَ الظَنّ إنّ بَعضَ الظَنّ إثم ” (27). يجب على المسلم أن يحسن الظن بالمسلمين فلا يتّبع عوراتهم لأدنى شبهة ، خاصة فيما لايعنيه. أما الحذر فهو غير الظن: قال تعالى: ” وخُذوا حذرَكُم ” (28)ـ كما أن المؤمن كيِّسٌ فَطِن ، ولايُلدغ من جُحْرٍ مرتين ، فإذا ما استنتج من ظواهر معينة أمورا خفية فيها مصلحة للمسلمين ، فذلك غير الظن السوء المنهي عنه.
إن من الناس من لا يثق بأحد ، فهو على الدوام يظن بهم سوءا ولا يتصور حسن نية من أحد. وهذا داء لصاحبه يقلب حياته شقاء ولا ينعم بساعة من حياته. أما الخطرات التي تخطر ببال الإنسان فلا يتبعها بتحقق الأمور التي خطرت له ولا يتحدث بها ولا يبالي بها فهي من حديث النفس المعفو عنه ما لم يتبع ذلك بتجسس وتتبع لعورات المسلمين . وكثيرا ما يكون الظن معبِّرا عما في داخل نفس المرء نفسه ، فإن كان منافقا ظن أن كل الناس منافقون ، وإن كان غشاشا ظنهم كذلك ، وإن كان مرائيا ظن أن الناس كذلك . أما المؤمن فيحسن الظن بالمسلمين ويفسر الأمور على أصلح وجه ويلتمس الأعذار لغيره ، فإن أخطأ في حسن الظن مائة مرة خير من أن يخطئ بسوء الظن مرة واحدة.
ـ 97 ـ الإستغناء عن سؤال الناس
عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة ، فقال: ” ألا تُبايعونَ رَسول اللّه؟ ” ، وكنا حديثي عهد ببيعة ، فقلنا قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ” ألا تُبايعون رسولَ اللّه؟ ” ، فبسطنا أيدينا وقلنا بايعناك يا رسول الله ، فعلامَ نبايعك؟ قال: ” أن تَعبُدوا اللّهَ ولا تُشركوا به شيئا ، والصَلوات الخَمس ، وتُطيعوا اللّهَ ” ، وأسَرّ كلمة خفية: ”ولا تَسألوا النّاسَ شيئا ” . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه.
(رواه مسلم)
البيعة لعامة المسلمين حينما كان يأخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غالب الأحيان ، كانت تشتمل على أخذ الميثاق بعدم الإشراك بالله وطاعة الله ورسوله في المنشط والمكره (أي فيما يحب المرء وفيما يكره). أما هذه البيعة فهي بيعة خاصة لأولئك النفر ، وهذا هو السر في خفض النبي صوته في أن لا يسألوا الناس شيئا ، فهذه هي العزيمة ، وما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليأخذ عليهم العهد بعدم سؤال الناس شيئا إلاّ بعد أن عرف من نفوسهم الإستعداد لذلك . وعدم سؤال الناس شيئا قد يبدو لأول وهلة هو عدم الإستجداء من الناس. لكن أولئك النفر الكرام قد فهموا أمر رسول الله على عموم لفظه بعدم سؤال الناس أي حاجة كانت حتى ولو كانت مساعدة بسيطة (رغم أن ذلك ليس حراما) ، لأن مثل هذه المسألة هي طلب صدقة ممن يؤديها.
إن سؤال العبد لغير الله فيه شيء من ضعف اليقين بالله تعالى . فالمؤمن قوي اليقين بالله تعالى لايسأل إلاّ الله ولا يستعين إلا بالله كما مر في الحديث (6). ولذلك فهو يعمل بيده ويكتسب رزقه بيده ويتوكل على الله وهو عزيز النفس لا يستجدي من أحد. وهو يقدم مساعدة لمن احتاج إليها ، وتلك صدقة تكتب له. أما هو فلا يسأل الناس صدقة إن استطاع أن يستغني عنها ، وما أسهل الإستغناء عن كثير من الأمور غير الضرورية بالنسبة للمؤمن . أما ضعيفو الإيمان فيجدون كثيرا من الأمور التافهة ضرورية ، وبذلك تستعبدهم الدنيا فيصبحون عبيدا لشهواتهم ولملذات الدنيا ، ويكونون مستعبدين لمن يستطيع أن يقدم لهم حاجة من حاجات الدنيا التافهة . فالعزيمة في هذا الموضوع هي ترك سؤال الناس والإستغناء عن طلب مساعدتهم كلما كان ذلك ممكنا ، والرضا بما يستطيع المرء أن يفعله أو يحصل عليه بنفسه ، لا تكبرا وإستعلاءا ، بل بأن يرى أن الأمور كلها بيد الله تعالى فلا يسأل أحدا سواه.
ـ 98 ـ عدم التكلف
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ” نُهينا عن التَكلُّف ” .
(رواه البخاري)
التكلف شكل من أشكال الرياء ، فهو تصنُّع الفعل في غير موضعه إبتغاء مديح أو سمعة أو إتصاف المرء بما ليس من صفاته حقيقة . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من علم شيئا فليقم به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم ، قال اللّه تعالى ” قُل ما أسألُكُم عَليه من أجر وما أنا منَ المُتَكَلّفينَ ” .
يتكلف كثير من الناس تصرفات مختلفة بحيث شاع بينهم كذب الأفعال وهو ما يدعى اليوم بالتقاليد الإجتماعية ، فترى المرء يعيش في ضنك وينفق الكثير إبتغاء سمعة أو دفعا لقول سوء قد يلحقه في مناسبة فرح أو عزاء ، وترى الناس يتركون فعلا يريدونه متصنعين الأعذار جاعلين حياتهم عبأ ثقيلا ، حتى أن الأرحام لتقطع تكلفا . أما المؤمن فيصنع الفعل ببساطة ودون إخفاء شيء وإظهار آخر ، ولا يتكلف أن يفعل فعلا ليس بنيته فعله.
وقد يقود التكلف إلى إرتكاب المعاصي: كالدَّيْنِ ثم المماطلة فيه وعدم وفائه ، أو الإكتساب من الحرام . كما قد يقود إلى الكذب والبحث عن الحجج الواهية لتبرير فعل معين . إن التكلف هو في حقيقته النظر إلى الأمور بعين السطحية ، أي في مظاهرها دون جوهرها . والتكلف هو مقدمة إلى النفاق ، حين يظهر المرء ما لا يبطن. كما أن أحد أسباب التكلف هو الكبر ، حيث يخشى المرء مثلا أن يقول عن أمر لا يعرفه: لا أعلم ، فيتكلم فيه بغير علم . إن قول الشعر لمن لم يؤت القابلية اللازمة له تكلف ، و التظاهر بزي الأغنياء للفقراء من التكلف... وهكذا.
يحب هذا الدين أن يتصرف المرء على سجيته دون إصطناع للتصرف فليس التكلف من فعل المؤمن المستقيم.
ـ 99 ـ ذكر الموت
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” أكثروا ذكرَهاذم اللَّذات ” ، يعني الموت.
(رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه والطبراني)
الحياة الدنيا بالنسبة للمؤمن دار سفر وإنما الحياة حياة الآخرة ، فهو يتذكرها كثيرا . وتذكره هذا يدفعه إلى المزيد من الإعداد لها . وذلك وسيلة لتزكية النفس وتذكيرها بخالقها وما عليها من واجبات ، وذلك كان دأب الأنبياء ، حيث وصفهم الله تعالى: ”إنّا أخلَصناهُم بخالصَة ذكرى الدار ”(29).ـ
إن تذكر الموت وما بعده من أهوال القيامة والحشر والحساب والجنة والنار هو وسيلة لتزكية نفس المؤمن ، فإذا ما تذكر العقاب خشي أن يفعل المعاصي وإزداد في عمل الخير. وعلى المؤمن أن يتذكر الموت بين حين وآخر وذلك حين يتذكر من سبقه من الأحياء الذين إنتقلوا إلى الدار الآخرة أو عند زيارة المقابر أو عند أخذه مضجعه للنوم ، فما النوم إلاّ موت مؤقت.
أما نسيان الموت والخوض في الدنيا دون تذكر للقيامة والحساب ، فإنه يؤدي إلى الطغيان والغفلة وارتكاب الآثام دون رادع من مراقبة أو محاسبة وعندها يقترب المرء من النار وهو لا يدري حتى إذا أدركه الموت ” قالَ رَبّ ارجعون لَعَلّي أعمَلُ صالحا فيما تَرَكتُ ” فلا يستجاب له ” كَلاّ إنَّها كَلمَة هو قائلُها ومن ورائهم بَرزَخ إلى يوم يُبعَثونَ ” (30).ـ
ـ 100 ـ عيشة الغرباء
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” بدأ الإسلامُ غَريبا وسيعودُ كما بَدأ ، فطوبى للغُرَباء ”
(رواه مسلم وإبن ماجه والنسائي والترمذي وأحمد)
حين بدأ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في مكة ، كان منهجه ودعوته أقرب ما تكون إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ومع هذا كانت دعوته كلها وخاصة دعوة التوحيد ، أغرب ما يكون بالنسبة للكفار حتى قالوا: ” أجَعَلَ الآلهَةَ إلها واحدا ، إنّ هذا لَشيء عجاب ” (32). وهكذا كلما إبتعد الناس عن نهج الصراط المستقيم رأوا هذا الدين غريبا ورأوا أصحابه غرباء.
كان المسلمون الأولون غرباء في أهليهم . الوالد مسلم والولد كافر ، والزوجة مؤمنة والزوج كافر ، والولد مؤمن وأبواه كافران . غربة حقيقية للمؤمن في بيته. وحين كان المؤمن يقصد بيت الله الحرام ليؤدي صلاته يجد حوله ثلاثمائة وستين صنما تعبد هناك من دون الله ، فيؤدي صلاته ثم يعود أو يخرج إلى البادية وحيدا او مع أخ له أو أخوين بعيدا عن أعين الكفار ليؤدي صلاته ويناجي ربه. ثم يعجب كيف يرى هذا الدين واضحا قريبا من فطرته ، ثم يجد غيره أبعد ما يكونوا عن رؤية الحق وتصديقه ، أليست تلك غربة ؟ وكان بعد تلك الغربة عزة ونصر مبين.
ويعود الإسلام غريبا كما بدأ... ويلتفت المسلم حوله اليوم ليرى مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... فطوبى للغرباء... فمن هم الغرباء...؟ هم إخوان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين قال عنهم: ” وددتُ أنّا رأينا إخواننا ” ، قيل أولسنا إخوانك يارسول الله؟ قال: ” أنتُم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ ” (33)... هؤلاء الغرباء إخوان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... هم الذين استقاموا على طريقته ، فاتمروا بأمر الله وساروا على نهج نبيه واشتاقوا للقاء ربهم والشرب من حوض الكوثر من يد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، سواء عندهم الحياة أو الممات ، يستغفرون إن أخطأوا ويشكرون ربهم على نعمائه ، ويصبرون على قضائه ويعبدونه حتى يأتيهم اليقين ، يفرّون من المعاصي فرارهم من وحوش الغاب ، ويرجون رحمة ربهم يدعونه خوفا وطمعا ، تتقلب الدنانير والدراهم بين أيديهم وليس في قلوبهم شيء منها ، فهي أموال الله هم مستخلفون في هذه الدنيا برعايتها ، يعيشون مع الناس بأجسادهم وقلوبهم محلقة في علياء ربهم ، يعيشون مع ملائكته ، يعمرون أرض الله بذكر الله وإعلاء كلمته ، لو علم الملوك بحالهم وسعادتهم لقاتلوهم على تلك السعادة بالسيوف...وهم لا يخافون في الله لومة لائم... إنهم غرباء بين لائميهم... فطوبى لأولئك الغرباء...
للأعلى
line.gif (2557 bytes)
ـ1ـ االنعمان بن بشير بن سعد الخزرجي ، هو وأبوه صحابيان ، كان أول مولود من الأنصار بعد الهجرة ، ولي قضاء دمشق واستعمله معاوية على الكوفة ثم أميرا على حمص ، كان خطيبا مفوها ، وبعد تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة بويع بالخلافة ، فحاربه مروان بن الحكم ، وقتل سنة 65هـ.
ـ2ـ رواه البخاري.
ـ3ـ محمد بن سيرين العالم الجليل المشهور بتفسير الأحلام توفي سنة 210هـ وهو ابن نيف وثمانين.
ـ4ـ سورة الماعون 4 و 7.
ـ5ـ حديث: ” سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: الإمامُ العادل ، وشاب نشأ في عبادة ربّه ، ورجل قلبهُ معلّق في المساجد ، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل طلبته إمرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ” متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ـ6ـ رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي من حديث شداد بن أوس.
ـ7ـ سورة الضحى الآية 11.
ـ8ـ سورة التوبة الآية 26.
ـ9ـ مطرف بن عبد الله الشخير الحرشي العامري كان من كبار زهاد التابعين ، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وروى حديثه وهو ثقة في رواية الحديث. أقام بالبصرة وتوفي سنة 87هـ.
ـ10ـ سورة النجم الآية 32.
ـ11ـ كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ، الجزء الثالث ، كتاب ذم الكبر والاختيال.
ـ12ـ رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأبو داود وأحمد.
ـ13ـ سورة الشمس الآيتان 9 و 10.
ـ14ـ سورة النازعات الآيتان 40 و 41.
ـ15ـ سورة آل عمران الآية 92.
ـ16ـ سورة يوسف الآية 53.
ـ17ـ أبو محمد عبدالله بن محمد المرتعش النيسابوري ، صحب الجنيد وأبا عثمان وأقام ببغداد بمسجد الشونيزية . كان معروفا بالمكاشفات ، توفي ببغداد سنة 328هـ.
ـ18ـ أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية الدارني: ينسب إلى قرية داريا من قرى دمشق. كان عالما ورعا . توفي سنة 215هـ.
ـ19ـ سورة العنكبوت الآية 48.
ـ20ـ سورة النجم الآية 31.
ـ21ـأنظر الهامش 70 الباب الأول.
ـ22ـ سورة البقرة الآية 144 و سورة المائدة الآية 48.
ـ23ـ سورة الأعراف الآية 33.
ـ24ـ سورة النساء الآية 54.
ـ25ـ سورة المائدة الآية 27.
ـ26ـ سورة فاطر الآية 43.
ـ27ـ سورة الحجرات الآية 12.
ـ28ـ سورة التغابن الآية 102.
ـ29ـ سورة ص الآية 86.
ـ30ـ سورة ص الآية 46.
ـ31ـ سورة المؤمنون الآيتان 99 و 100.
ـ32ـ سورة ص الآية 5.
ـ33ـ رواه مسلم وبن ماجه والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه